قبيل مقتله في عام 1968، كان مارتن لوثر كينج قد أضحى مثل مبشر يلقى الصد والجفاء من قومه. فقد وجد استطلاع للرأي لـ«هاريس بول» أن زعيم حركة الحقوق المدنية فقد سيطرته على المخيلة الأميركية. ذلك أن ثلاثة من أصل أربعة مستجوَبين بيض قالوا إنهم غير راضين عن عمل كينج بعد أن أصبح مناهضاً للحرب في فيتنام. ولعل المثير للصدمة أكثر هو أن قرابة نصف الأميركيين السود غير راضين عنه أيضاً.
والحال أنه قبل بضع سنوات فقط من ذلك التاريخ، كان كينج في أوج شعبيته؛ ففي 1964 اختير «رجل السنة» من قبل مجلة «تايم»، وكان أصغر شخص يفوز بجائزة نوبل للسلام. ونجاحه في الضغط باتجاه إقرار «قانون الحقوق المدنية» لسنة 1964 كان متبوعاً بـ«قانون حقوق التصويت» في 1965.
لكن في 1968 انتُقد كينج على نطاق واسع، حتى من قبل زملائه في حركة الحقوق المدنية.
فقد عاتبه زعماء أميركيون أفارقة لأنه لم يجلب مظاهراته إلى مدنهم. وعن القادة السود، مثل «روي ويلكينز» من «الجمعية الوطنية للملونين»، و«آدم كلايتون باول» النائب الديمقراطي عن نيويورك.. قال كينج متأسفاً: «ما يريدون قوله هو أن مارتن لوثر كينج مات، لقد انتهى، فحركته التي تنبذ العنف ليست شيئاً. فلا أحد يستمع إليه».
ومن زعماء حركة «القوة السوداء» الصاعدة أتت انتقادات أخرى، رأت أن فلسفة كينج بخصوص الاحتجاج السلمي ضعيفة وتميل للخضوع والخنوع. ومثلما قال كاتب يساري عن آخر حملة كبيرة لكينج («حملة الفقراء»)، فإن «فشل الحملة مثّل قُبلة الوفاة» بالنسبة لـ«مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية» الذي كان يرأسه كينج.
أصدقاء كينج لاحظوا حزنه واكتئابه خلال أشهره الأخيرة، كما يقول المؤرخ ديفيد غارو في كتابه «حمل الصليب». ويقول حليفه القوي القس رالف أبيرناثي: «كان شخصاً مختلفاً. كان حزيناً وكئيباً».
كينج تساءل ما إن كان لعمله أي تأثير، ولفت إلى العداء الموجَّه إلى أنصار الآمال غير المنجَزة. وقال: «إن الشعور بالمرارة كثيراً ما يكون أكبر تجاه الشخص الذي بنى الأمل واستطاع أن يقول (لدي حلم)، لكنه لم يستطع تحقيقه بسبب مرض الأمة وفشلها في الاستجابة لذاك الحلم».
ومؤخراً أحيت أميركا الذكرى التسعين لميلاد كينج. ذكرى وجدت الكثير من الأميركيين في أماكنهم المظلمة الخاصة بهم. ذلك أن حب الأعداء بات نادراً، والتضامن مع الفقراء والغرباء والمسجونين أضحى محل سخرية وتهكم. وفي الأثناء، باتت الهويات تستأثر بالولاء بينما لم يعد أحد يرغب في انتصار مبدأ الإنسانية الكونية.
وفي مثل هذه الأوقات، من الجيد أن نتذكّر أن الحياة التي نحيي ذكراها ونحتفي بها كان الشك يغشاها، والانقسام يلاحقها، والخوف يسكنها، والشعور بالفشل يبتليها. إننا نكرّم مارتن لوثر كينج ليس لانتصاراته، التي تظل ناقصة وغير مكتملة.. ولكننا نكرّمه لرؤيته ولالتزامه وتضحياته من أجل تلك الرؤية. فقد رأى ما قد نكون قادرين عليه -كأفراد وكأمة- وآمن بتلك الإمكانية كثيراً لدرجة أنه ترك كل ما سواها، بما في ذلك الحياة نفسها، حتى يرفعها عالياً إلى حيث نستطيع رؤيتها.
وعلى غرار كينج، فإننا أيضاً نختار كل يوم العيش في الأمل أو الخوف، مع الحب أو الكراهية، كبُناة أو كمدمِّرين. ومن كينج، تعلمنا أن هذه الاختيارات ليست سهلة مثلما قد يبدو أحياناً، وليست شعبية مثلما قد نتخيل. وفي كينج، لدينا نموذج للاختيار، ومثال قوي للرفض القاطع للاستسلام.

*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»